في ظل التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم اليوم، أصبحت الحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من المفاهيم والممارسات التقليدية التي كانت سائدة في القرن الماضي أمراً حتمياً. أحد هذه المفاهيم التي تستحق إعادة التقييم هو مفهوم “الموارد البشرية”. فعلى الرغم من أن هذا المفهوم أصبح جزءاً لا يتجزأ من اللغة اليومية في الأعمال والمؤسسات، إلا أن النظر إلى الإنسان كـ”موارد” لا يعبر بدقة عن القيمة الحقيقية للبشر ودورهم في العالم المهني والاقتصادي.
إن تسمية الموارد البشرية تعطي انطباعًا خاطئًا بأن الأفراد الذين يعملون في المؤسسات هم مجرد أدوات أو آلات يمكن استغلالها بالطريقة التي تستغل بها الموارد الأخرى مثل المواد الخام أو رأس المال. هذا التفكير قد يهمش الجانب الإنساني للعاملين، ويحصرهم في إطار الكفاءة الإنتاجية فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار العواطف والتفاعلات الاجتماعية والتطلعات الشخصية التي تميزهم ككائنات بشرية. هذا المنظور غير الإنساني قد ينعكس سلباً على الدافع الذاتي للأفراد وعلى ثقافة العمل بشكل عام، مما يؤدي إلى انخفاض الولاء المؤسسي وتدهور نوعية الأداء المهني.
في المقابل، من الضروري أن نبدأ في التفكير في العاملين ليس كموارد بل كأشخاص لهم حقوق وتطلعات وقيم ومشاعر. هم ليسوا فقط مجموعة من المهارات والكفاءات التي يمكن توظيفها لتحقيق أهداف المؤسسة، بل هم أفراد يسعون لتطوير حياتهم المهنية وتحقيق طموحاتهم الشخصية، ويتطلعون إلى أن يُعاملوا باحترام وتقدير. إن التفكير في الموظفين على أنهم “موارد” يمكن أن يؤدي إلى استنزاف قدراتهم بشكل غير عادل، ويخلق بيئة عمل سامة حيث ينصب التركيز على زيادة الإنتاجية دون النظر إلى رفاهية الأفراد.
لكي نبدأ في تغيير هذا المفهوم، يجب أن نعيد النظر في الهيكلية الإدارية والممارسات المؤسسية التي تعامل الموظفين كأدوات عمل قابلة للاستبدال. يجب على المؤسسات أن تبدأ في تبني ممارسات تركز على تمكين العاملين وتوفير بيئة تتيح لهم تحقيق تطلعاتهم الفردية، سواء على المستوى المهني أو الشخصي. هذا يتطلب نهجاً شاملاً يدمج بين تطوير المهارات التقنية والمهنية وبين تقديم الدعم النفسي والاجتماعي الذي يعزز الشعور بالانتماء والولاء. من خلال هذا النهج، يمكن خلق ثقافة عمل تتسم بالإيجابية والإنتاجية العالية في نفس الوقت.
أحد أهم الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق هذا التحول هو تحسين التواصل بين الإدارات والموظفين. التواصل المفتوح والشفاف يتيح للعاملين الشعور بأنهم جزء من العملية الإدارية وليسوا مجرد منفذين للتوجيهات. كما أنه يساعد في بناء الثقة المتبادلة بين جميع المستويات الوظيفية داخل المؤسسة، مما يؤدي إلى زيادة الدافع والإنتاجية. وعلاوة على ذلك، ينبغي على المؤسسات أن تولي اهتماماً خاصاً لتقديم التقدير المناسب للأفراد على جهودهم وإنجازاتهم، وليس فقط تقييمهم بناءً على مدى تحقيقهم للأهداف العددية.
عندما نتحدث عن إعادة النظر في مفهوم الموارد البشرية، فإننا لا ندعو فقط إلى تعديل مصطلح أو تغيير كلمات، بل نحن ندعو إلى إحداث تغيير جذري في طريقة التفكير والتعامل مع الأفراد داخل المؤسسات. هذا التغيير يجب أن يكون متمحوراً حول الإنسان في جوهره، وأن يعترف بالقيمة الفريدة لكل شخص وبالدور الذي يمكن أن يلعبه في تحقيق النجاح المؤسسي. يجب أن ندرك أن النجاح لا يعتمد فقط على تحقيق الأرباح أو الأهداف القصيرة المدى، بل يعتمد أيضاً على قدرة المؤسسة على خلق بيئة عمل مستدامة تعزز الرضا المهني وتحافظ على رفاهية العاملين.
وفي هذا السياق، من الضروري أن نستلهم من الممارسات العالمية الناجحة التي وضعت الأفراد في قلب العملية المؤسسية. العديد من الشركات الكبرى، مثل جوجل وآبل ومايكروسوفت، تبنت سياسات تركز على توفير بيئة عمل ملهمة ومحفزة، تتيح للعاملين الابتكار والتطوير بحرية. هذه الشركات أدركت أن الاستثمار في رفاهية الأفراد يعود بالنفع الكبير على أداء الشركة على المدى الطويل. فالابتكار والإبداع لا يمكن أن يتحققا في بيئة مليئة بالضغوط والتوترات النفسية، بل يحتاجان إلى مساحة من الحرية والتشجيع.
ومن هنا، فإن تغيير مفهوم الموارد البشرية لا يقتصر فقط على المديرين أو صانعي القرار، بل هو مسؤولية مشتركة تشمل جميع أفراد المؤسسة. ينبغي على الجميع أن يسعى إلى خلق بيئة عمل قائمة على الاحترام المتبادل والتقدير للجهود المبذولة. يجب أن يشعر كل فرد أنه يساهم في نجاح المؤسسة بطريقة فريدة وأن له دوراً حقيقياً يتجاوز مجرد تنفيذ المهام اليومية. كما يجب أن يكون هناك حرص على تقديم الدعم اللازم للعاملين لتحقيق توازن بين حياتهم الشخصية والمهنية، وذلك من خلال تقديم برامج تدريبية وتنموية تهدف إلى تعزيز المهارات الشخصية والنفسية وليس فقط المهنية.
يمكن القول إن تغيير مفهوم الموارد البشرية من موارد إلى أشخاص يتطلب تحولاً شاملاً في طريقة التفكير والعمل داخل المؤسسات. هذا التحول لا يعني فقط تعديل المصطلحات، بل يعني تبني نهج جديد في التعامل مع الأفراد، نهج يركز على تمكينهم وتحقيق رفاهيتهم الشخصية والمهنية.
المؤسسات التي تتبنى هذا النهج ستجد نفسها قادرة على خلق بيئة عمل إيجابية ومستدامة، حيث يشعر الجميع بالتقدير والانتماء، ويصبح النجاح المؤسسي نتيجة طبيعية للتعاون والتكامل بين الجميع. إن الإنسان ليس موردًا قابلًا للاستغلال أو الاستنزاف، بل هو محور العملية الإنتاجية، وهو من يجب أن يُحتفى به ويُقدر بصفته شريكًا حقيقيًا في تحقيق النجاح