يُوضع الإبريق دائما فوق تلك المِنضدة، إلى جانب قِطع بالية؛ رجل يحمل بيده سيف، وآخر يحمل كأسا، وأية علاقة ممكنة بينهما لا أدري… ما أراه دائما أنه ليس لذلك الركن وفرة الاستعمال إلا لسيده، وهو رجل مُتزن، وتبدو عليه ملامح الوَقار، والعِزة. دائما ما كنت أُخمنُ أنه صاحب هذه المقهى، يجلس دائما إلى جانب ذلك الإبريق، وكأنه يخاف أن تصيبه مصيبة ما. يُلوح بيده للنادل بين الفينة والأخرى، يَقفزُ من مكانه إذا ما رأى أن ثمة فوضى تَغمر المكان.
وفي لحظة… بدأت تلك المنضدة تهتز، والإبريق بلمعانه يرمي بشرارة ضوء قوي، لقد أصبح له صوت؛ طن طن طن…
لقد سقط، كأن قوة ما دفعته للسقوط. ما حدث؛ أن الرجل حاول أن يحفظ إبريقه النحاسي من تهور واندفاع جماهير إحدى الفرق… فإذا به ألقى بساعته اليدوية نحو أحدهم، ليدفعه أحد اليافعين نحو الإبريق، ويسقط بجانبه هو الآخر.
فوهة الإبريق صارت معوجة، فسارع السيد إلى ترميمها بيديه، دون جدوى طبعا.
هو مكان مُشَوِشْ، وفي مثل هذه الأوقات هو مكان صادم… ولأن قوة الاندفاع والحماس لا يصدها شيء، فإن الرجل قد لَمَّ إبريقه، وأعاده لمكانه، مع كثير من الهدوء، غير مُبديا خوفه، إلا أن عيناه تنبعث منهم علامات الدهشة، والصدمة.
بعد ساعات، خَفَتَ المكان، وبدأ رواد المساء يتوافدون. دخلت سيدة أنيقة، تضع عِطرا فرنسيا خفيفا، اسْتولت على المكان، بعد مَشُورَةِ صاحِبِه، يبدو أنها في انتظار زوارها.
تحمل السيدة معها “قطة” بيضاء، يبدو أنها من ذلك النوع الذي لا يألف الشراسة. اهتمت كثيرا بكيفية تنظيم الطاولات، والواجهة التي ستجلس بها، تتحرك بطريقة تكاد تشبه مشية البطريق، بحركاتها هذه فقدت أناقتها الفرنسية.
استقبلت ضيوفها بابتسامة تكاد تكون غامقة بحزن قديم. اتخذ كل واحد منهم مجلسه. وما إن وضع السيد الطبق على الطاولة حتى تزاحمت الأدرع، وبدأت عملية مد الأيادي إلى الأمام، بينهم سيدة لا تكف عن الحديث، فاهها مكتظ بالأكل والكلام، مُتَهَوِرَة، وغير مُتزنة… يبدو أنها عانس. والأكيد أن السيدة الأنيقة كارهة لهذا الوضع.
تبدو هذه الجلسة، كأنها جلسة مُحاكمة، كما يبدو أن هؤلاء الأفراد من عائلة واحدة، بينهم بعض النساء، أرى فيهن تُحفة فنية، أو كصورة ينبغي أن تُعلق بأعلى الحائط، وتُحفظ من أي شَائِبَةٍ أو من عوامل التَلَفِ، كما بينهم رجل يهتز صدره بتنهيدة، كأنها نار تلتهب بقلبه، يبدو أنه ثمة مخالب أوجعت صدره، يمسكه كثيرا، ولا يكف عن السعال.
تُمَرِرُ السيدة الأنيقة يديها على كتفه، ويبادلها ابتسامة العزاء، ثم تبدأ هي في الحديث بينما الكل مشغول بطبقه، تقول كلماتها بلغة فرنسية هجينة، ما فهمته؛ أن بينهم إرث مشترك قديم، يَسْتَعْصِي عليهم توزيعه بشكل عادل. وتَطْلُبُ منهم الاهتمام بكلامها، بعدما استولى عليها الغضب…
وهي تتكلم، ركزت نظرها تجاهي، أطالت النظر، فسقطت عيناي أرضا، وَجَدْتُ تلك النظرة قاسية، ومشوشة، ثم انزلقتُ -فجأة- من خلالها نحو هُوَةِ “التأويل”، و”اللايقين”.
وبينما أنا أفكر في نظراتها، كانت مسامر الجوع تدق بمعدتي، فشربت ما تبقى من قهوتي الباردة…
للاشارة كل ما يرد في هذا الركن لايمثل بأي شكل من الاشكال الخط التحريري للجريدة أو رأيها، يمثل صاحبه فقط