أكد الدكتور مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، خلال ندوة وطنية عقدت بمدينة العيون تحت عنوان “قضية الوحدة الترابية للمملكة: من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل”، أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي ليست مجرد مقترح سياسي ظرفي، بل تمثل بناءً قانونياً ومؤسساتياً رصيناً يستند إلى مبدأ السيادة المعاصرة. واعتبرها نموذجاً سيادياً متقدماً لتسوية النزاعات الترابية، وحلاً واقعياً ينسجم مع متطلبات الشرعية الدولية، ومساهمة بناءة في تعزيز السلم والاستقرار داخل القارة الإفريقية.
وأوضح الدكتور حمداني أن جوهر المبادرة لا يكمن فقط في صياغة مقترح سياسي مرحلي، بل في بناء قانوني ومؤسساتي متين يعكس قدرة الدولة على تكييف بنيتها الداخلية وفق منطق الاستقرار والاندماج الوطني. وأضاف أن مفهوم السيادة المعاصرة لم يعد مرادفاً للجمود والمركزية، بل أصبح يعبر عن مرونة الدولة وقدرتها على التفريع والتمكين المؤسساتي.
وأشار إلى أن المقترح المغربي لا يقوض السيادة الوطنية، بل يُفعلها، حيث يندرج بوضوح ضمن الوحدة الترابية للمملكة، ويحتفظ للدولة المركزية بالاختصاصات السيادية الجوهرية مثل الدفاع والأمن والدين والعلاقات الخارجية، بينما يمنح الجهات صلاحيات واسعة في المجالات التشريعية والتنموية والاجتماعية.
وبيّن المتحدث أن مفهوم الحكم الذاتي عرف تطوراً دلالياً كبيراً خلال العقود الأخيرة، فانتقل من كونه صيغة مثيرة للريبة إلى أداة هندسة مؤسساتية متقدمة تُستخدم لحل النزاعات المعقدة داخل الدول دون المساس بوحدة ترابها. وأكد أن المبادرة المغربية تُعد من أبرز تطبيقات “تقرير المصير الداخلي التوافقي”، الذي يمثل بديلاً عقلانياً عن خيارات الانفصال أو الاستيعاب القسري، ويكرّس ثقافة الحوار والتفاوض السياسي، مبتعداً عن منطق فرض الحلول من خارج السياق الوطني.
واستعرض الدكتور حمداني مجموعة من التجارب الدولية المشابهة، منها جزر آلاند في فنلندا، جنوب تيرول في إيطاليا، كيبك في كندا، إلى جانب الحكم الذاتي المتعدد الأشكال في إسبانيا، والنموذج التفويضي في المملكة المتحدة. وأبرز كيف أن المبادرة المغربية تجمع بين خصائص هذه النماذج مع الاحتفاظ بخصوصية التكييف المغربي، مما يجعلها نموذجاً أصيلاً يستلهم ولا يستنسخ.
وتناول المتحدث النموذج الإسباني مطولاً، مشيراً إلى خصوصيته في تدبير التعدد داخل دولة موحدة. وأوضح أن إسبانيا اعتمدت منذ دستور 1978 نظام “الدولة المركبة” الذي يجمع بين مبدأ وحدة الأمة الإسبانية وحق الجهات أو “القوميات التاريخية” في الحكم الذاتي. وأكد أن هذا النظام أفرز تفاوتاً واضحاً بين الجهات، حيث تتمتع كتالونيا بلغة رسمية خاصة، ونظام تعليمي وإدارة محلية مستقلة، وقوة أمنية جهوية كاملة، في حين تكتفي جهات أخرى بصلاحيات أقل. أما إقليم الباسك، فقد بلغ نموذجاً فريداً من الاستقلالية المالية، يحتفظ بجل عائداته الضريبية ويحول فقط نسبة متفق عليها إلى الحكومة المركزية، مما يمنحه استقلالية مالية غير مسبوقة في أوروبا الغربية. وبيّن أن هذا النظام “اللامتماثل” في منح الحكم الذاتي لم يُنظر إليه كتهديد لوحدة الدولة، بل كآلية عقلانية لتدبير التنوع، وهو ما يتقاطع مع الفلسفة المؤطرة للمبادرة المغربية.
وقدّم المتحدث مثالاً على مسألة الشرطة المحلية، التي اعتبرها خطوة جريئة من الدولة المغربية تدل على استعداد حقيقي لمنح الجهة أدوات فعلية لتدبير شؤونها، وهو مستوى لا تتجرأ كثير من الدول على اعتماده في تجاربها اللامركزية.
كما توقف المتدخل عند نقطة استراتيجية تتعلق بإدارة الموارد الطبيعية، حيث تنص المبادرة على تخصيص العائدات المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية للجهة نفسها، وهو ما يقطع مع “لعنة الموارد” التي كانت سبباً للنزاعات في مناطق عديدة من العالم. واعتبر أن هذا الإجراء لا يمثل فقط توجهًا اقتصاديًا، بل رؤية سياسية تؤمن بأن التنمية الحقيقية مفتاح الاستقرار، وأن إشراك السكان المحليين في ثرواتهم يعزز الانتماء والثقة بالدولة.
من حيث البنية المؤسساتية، قدمت المبادرة تصوراً متكاملاً ومتقدماً، يتجاوز الهياكل التقليدية الثلاثية، حيث يُدخل عناصر مبتكرة مثل ضمان تمثيلية القبائل الصحراوية، ودمج وظيفتي رئاسة الجهة والتمثيل الرسمي للدولة في شخص واحد لضمان التنسيق المؤسسي ومنع ازدواجية السلط، بالإضافة إلى استقلالية المحاكم الجهوية التي تصدر أحكامها باسم الملك، ما يحافظ على وحدة السلطة الرمزية والسيادية.
وعلى مستوى القانون الدولي، أكد الدكتور حمداني أن المبادرة تتحدث اللغة القانونية المعاصرة، وتنسجم تماماً مع منطق مجلس الأمن الذي دعا في قرارات عدة إلى حل سياسي واقعي ودائم قائم على التوافق. كما تفعل المبادرة مبدأ “اللاتماثل البنّاء” الذي يسمح للدول بإعطاء أقاليم معينة وضعاً خاصاً دون تعميمه، متماشياً مع تجارب ديمقراطية متعددة. وشدد على أن الطابع المخصوص للمبادرة لا يمس بمبدأ المساواة بين الجهات، بل يندرج ضمن منطق التمايز الوظيفي كأداة عقلانية لإدارة تنوع الدولة.
أما من المنظور الإفريقي، فقد اعتبر المتحدث أن القيمة المضافة للمبادرة تتجاوز بعدها المحلي، إذ تمثل مساهمة استراتيجية في تشكيل نماذج بديلة لتسوية النزاعات الترابية داخل القارة التي تعاني من موجات انفصالية وانقسامات هوياتية تهدد بنيان الدولة الوطنية، مؤكداً أن القارة في أمس الحاجة إلى حلول تضمن وحدة الدول دون سحق تنوعها الداخلي.
وأكّد الدكتور مولاي بوبكر حمداني في ختام مداخلته أن المبادرة المغربية ليست إطاراً قانونياً فقط، بل مشروع وطني طموح يعكس ثقة المغرب في قدرته على تدبير قضاياه الكبرى، ويعبّر عن استعداد حقيقي لمنح صلاحيات واسعة ضمن دولة موحدة، في إطار رؤية متكاملة للتنمية والحكامة الجيدة. وأوضح أن قوة المبادرة لا تكمن فقط في مضمونها، بل في توقيتها ومقروئيتها الدولية، وقدرتها على ملاءمة تطورات القانون الدولي دون التفريط في الثوابت الوطنية، ما يجعلها اليوم مرجعاً يحتذى به في جهود الاستقرار والتكامل السياسي بالقارة الإفريقية.







































