تشكل أحكام المحكمة الدستورية منطلقًا هامًا لفهم وتقييم مدى توافق التشريعات مع الدستور، وتبرز دور المؤسسة القضائية في حماية المبادئ الدستورية وضمان التوازن بين السلطات. القرار الأخير للمحكمة الذي قضى بعدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية يسلط الضوء على أهمية وضوح الحدود التشريعية واحترام التدرج القانوني في عملية التشريع.
هذا التطور يعكس حرص المؤسسات على المحافظة على إطار دستوري متين يسهم في تعزيز سيادة القانون واستقلالية القضاء، ويشجع على الحوار المؤسسي من أجل تشريع متوازن ومتوافق مع الثوابت الوطنية.
في هذا السياق، قضت المحكمة بعدم دستورية مجموعة من المواد المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية، مثل المواد 549 و550 و551 و552 و553 و556 و558، والتي أُدرجت ضمن مشروع قانون المسطرة المدنية إثر تعديلات برلمانية خلال مناقشة النص. ورأت المحكمة أن هذه المواد تتجاوز نطاق قانون المسطرة المدنية وتتعلق بقضايا تنفيذية ذات طبيعة خاصة ترتبط بالعلاقة بين السلطة القضائية والتنفيذية. وأكدت أن معالجة هذه القضايا تتطلب وجود إطار مستقل يتميز بالدقة والوضوح، يحترم التدرج القانوني ولا يمس بمبادئ فصل السلط.

رد وزارة العدل جاء بالإعراب عن احترامها لقرار المحكمة، موضحة أن التعديلات التي أُدخِلت على مشروع القانون كانت تهدف إلى تحسين آليات التنفيذ، إلا أن المحكمة رأت أن إدراج هذه المقتضيات ضمن قانون المسطرة المدنية لم يكن مناسبًا، بما يتعارض مع مبادئ سمو القانون واحترام تدرج النصوص التشريعية المنصوص عليها في الدستور.
من جهة أخرى، قدم الخبير الدستوري الأستاذ محمد الهيني قراءة تحليلية للقرار، موضحًا أنه يمثل مرحلة جديدة في رقابة المحكمة الدستورية، تعتمد على تشديد الرقابة ورفض الانزلاقات التشريعية التي قد تؤثر على توازن السلطات. وشدد على أن توصيف المحكمة لـ”الخرق الدستوري البيّن” يعكس تغييرًا في منهجية الرقابة، باتت أكثر حزمًا وتطلب التدخل الفوري دون تأويلات قد تبرر التجاوزات.
وأشار الهيني إلى أن تضمين مقتضيات تنفيذية في نص إجرائي يشكل خلطًا في تدرج القواعد القانونية ويمس بمبدأ التخصص التشريعي، معتبراً أن هذه الممارسة تحتاج إلى مراجعة دقيقة لضمان انسجام النصوص القانونية مع الدستور وأهدافه.
ويشير هذا القرار إلى أهمية احترام المبادئ الدستورية كأساس لبناء تشريعات فعالة ومتوازنة، ويؤكد على ضرورة تعزيز استقلال القضاء من خلال وضوح الاختصاصات وعدم تداخلها مع السلطات الأخرى. كما يفتح المجال أمام حوار مؤسسي يعزز التعاون بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية، بهدف تحقيق نصوص قانونية تراعي الثوابت الدستورية وتخدم مصلحة المجتمع.
في النهاية، يعكس قرار المحكمة الدستورية موقفًا متزنًا يكرس دورها كحارس للدستور ورافعة لضمان حسن سير المؤسسات، ويشير إلى تطور في المشهد التشريعي المغربي نحو مزيد من الالتزام بالمبادئ الدستورية.
إن احترام هذه المبادئ ليس فقط التزامًا قانونيًا، بل ضرورة لضمان استقرار النظام الديمقراطي وتحقيق العدالة والحفاظ على حقوق المواطنين.







































