لم يكن ما حدث في ليلة سانتياغو مجرّد انتصار كروي، بل فصل جديد في رواية وطن كتبها جيل من الشباب بالحلم، بالانضباط، وبإيمان لا يتزعزع بأن المجد ممكن متى امتزجت الموهبة بالإصرار.
المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة، الذي دخل بطولة كأس العالم “الشيلي 2025” بتطلعات هادئة، خرج منها بطلاً للعالم، رافعاً راية المغرب على قمة الكرة الكونية لأول مرة في تاريخه.
البداية من مجموعة الموت.. حين آمن الأشبال بالحلم
لم تكن القرعة رحيمة بالمنتخب المغربي؛ فقد أوقعته في “مجموعة الموت” إلى جانب البرازيل وإسبانيا والمكسيك، وهي منتخبات تصنع تاريخ هذه الفئة منذ عقود.
غير أن “أشبال الأطلس” اختاروا أن يبدأوا البطولة بثقة الكبار، فحققوا فوزاً لافتاً على إسبانيا بهدفين نظيفين، قبل أن يطيحوا بالبرازيل (2-1) في مباراة حملت توقيع الجيل المغربي الجديد على الساحة العالمية.
وبعد ضمان التأهل، جاءت الخسارة أمام المكسيك (1-0) بلا أثر يُذكر، لأن الهدف كان واضحاً منذ البداية: الذهاب بعيداً في البطولة.
تصدر الأشبال مجموعتهم بست نقاط وأداء لفت أنظار العالم، ليبدأ الحديث عن منتخب منظم، متماسك، يعرف كيف يفوز وأين يقف، في كل لحظة من المباراة.
عزيمة لا تلين.. عبور الأدوار الإقصائية بثقة الأبطال
في دور الثمن، واجه المنتخب المغربي كوريا الجنوبية، منتخباً يمتاز بالسرعة والانضباط، لكن المغاربة أظهروا شخصية الفريق المتكامل، فانتصروا (2-1) وواصلوا المسير.
وفي ربع النهائي، جاء الموعد مع الولايات المتحدة الأمريكية، أحد أكثر المنتخبات انسجاماً في البطولة، غير أن “أشبال الأطلس” قدموا عرضاً مثالياً أنهاهوا بثلاثية مقابل هدف، ليؤكدوا أن الطموح المغربي لم يعد حلماً بل مشروعاً رياضياً متكاملاً.
أما نصف النهائي فكان درساً في الصبر والشجاعة. مواجهة أمام فرنسا، بطل العالم ست مرات في هذه الفئة، انتهت بالتعادل، قبل أن تحسمها ركلات الترجيح (5-4) لصالح الأشبال، وسط دموع الفرح التي غمرت كل من تابع المباراة.
ليلة سانتياغو.. حين دوّى النشيد الوطني في سماء العالم
في النهائي، كان الموعد مع الأرجنتين، المدرسة التي أنجبت مارادونا وميسي، وصاحبة ستة ألقاب عالمية.
لكن أبناء المغرب لم يهابوا التاريخ. في الدقيقة 12، سجّل ياسر الزابيري هدفاً من ضربة خطأ مباشرة أذهلت الجماهير. وفي الدقيقة 29، أضاف الهدف الثاني بعد هجمة مرتدة قادها عثمان معما بذكاء الكبار.
منذ تلك اللحظة، لم يعد السؤال “هل يفوز المغرب؟” بل “كم هي كبيرة فرحة المغرب؟”.
وعندما أطلق الحكم صافرة النهاية، دوّى النشيد الوطني في ملعب “خوليو مارتينيث برادانوس”، وعانقت دموع الفرح وجوه اللاعبين، ليُرفع الكأس الحلم إلى السماء… وكان كل المغرب هناك.
أبطال بالموهبة والعقل.. جوائز فردية تزين التتويج الجماعي
لم يكن التتويج جماعياً فحسب؛ فقد توّج عثمان معما بجائزة الكرة الذهبية كأفضل لاعب في البطولة، فيما نال ياسر الزابيري الحذاء الذهبي بعد تصدره ترتيب الهدافين بخمسة أهداف، إلى جانب الكرة الفضية كثاني أفضل لاعب.
جوائز مستحقة لمنتخب جمع بين الانضباط الدفاعي، والإبداع الهجومي، وروح الفريق الواحد.
وهبي.. المهندس الهادئ لملحمة الأشبال
يعود الفضل الكبير في هذا الإنجاز إلى المدرب محمد وهبي، الذي قاد المنتخب بعقلانية وخبرة، ونجح في خلق توازن دقيق بين الالتزام التكتيكي والحرية الإبداعية للاعبين.
نهجه لم يكن يعتمد على النجوم، بل على المجموعة، فكل لاعب كان له دور محدد في منظومة جماعية متماسكة.
وهبي أعاد تعريف الكرة المغربية الشابة، مقدماً فريقاً يُهاجم بثقة، ويدافع بذكاء، ويُفكر كمنظومة واحدة تسعى إلى المجد.
من الرؤية الملكية إلى الثمار الميدانية
لا يمكن قراءة هذا التتويج دون العودة إلى الرؤية الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، الذي جعل من تطوير الرياضة، وخاصة كرة القدم، ورشاً استراتيجياً لتأطير الشباب وبناء الأجيال.
فمن خلال أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، وبرامج التكوين الحديثة التي أطلقتها الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم برئاسة فوزي لقجع، وُلد هذا الجيل الذهبي.
جيل يُمثل ثمرة عمل مؤسساتي طويل المدى، يؤكد أن النجاح في الرياضة ليس وليد الصدفة، بل نتيجة تخطيط ورؤية بعيدة المدى.
بعد المجد.. المستقبل يبدأ الآن
تتويج “أشبال الأطلس” بكأس العالم لم يكن نهاية الرحلة، بل بدايتها.
جيل شاب أثبت أن المغرب قادر على منافسة الكبار في كل المستويات، وأن العمل القاعدي الجاد هو الطريق الأمثل لبناء منتخبات قوية ومستمرة.
اليوم، يقف المغرب على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخه الكروي، بفضل مشروع واضح المعالم، ورؤية ملكية طموحة، وإدارة كروية تؤمن بالاستثمار في الإنسان قبل النتيجة.
وفي النهاية، تظل ليلة سانتياغو 2025 أكثر من مجرد لحظة فوز، إنها لحظة وعي جماعي بأن الحلم المغربي يمكن أن يصبح حقيقة، متى امتزجت الروح الوطنية بالإيمان بالذات، ومتى آمن الشباب بأن الراية الحمراء لا تُرفع إلا في القمم.









































































