الأنا العميقة وتمثلات السيري والشعري.. حين تتحول القصيدة إلى سيرة للكينونة

قراءة ثقافية في الدرس الافتتاحي و"نبض القصيدة" لدار الشعر بمراكش

القضية بريس27 أكتوبر 2025آخر تحديث : منذ شهر واحد
القضية بريس
فن وثقافة
الأنا العميقة وتمثلات السيري والشعري.. حين تتحول القصيدة إلى سيرة للكينونة

تؤكد دار الشعر بمراكش، مرة أخرى، موقعها كمنصة حوارية ونقدية تتجاوز حدود الاحتفاء بالشعر إلى مساءلة جوهره وأسئلته الفلسفية. افتتاح موسمها الثقافي والشعري التاسع بلقاء مزدوج بين الفكر والإبداع – الدرس الافتتاحي و”نبض القصيدة” – لم يكن مجرد افتتاح تقليدي، بل ممارسة فكرية في تفكيك العلاقة بين الذات واللغة، بين السيرة والقصيدة، بين ما يُكتب وما يُعاش.

 

الشعر والسيرة.. من التعبير إلى التكوين

الناقد والباحث الدكتور محمد الداهي، الذي راكم تجربة علمية دقيقة في مقاربة السرد الذاتي، جعل من مداخلته حول “أسئلة الشعر والسيرة” محطة تأمل في علاقة الشعر بالميثاق السيرذاتي، وكيف أن النقاد غالباً ما يسقطون على النصوص الشعرية أدوات قراءة مستعارة من السرد دون وعي بخصوصية التخييل الشعري.

 

يذكّر الداهي هنا بما يسميه جون ريكاردو “إيديولوجيا التعبير المهيمن”، أي وهم التطابق بين ما يُقال وما يُعاش، بين الشاعر والقصيدة، في حين أن الشعر – في جوهره – لا يعبّر عن الذات بقدر ما يُعيد خلقها.

 

من هذا المنظور، تصبح “الأنا” في الشعر أنا مُتخيَّلة، تتوالد من اللغة أكثر مما تتحدث عنها، وتعيد إنتاج نفسها عبر الانكسارات والرموز والاستعارات.

 

وفي استدعائه لتجربة فيليب لوجون وميشيل ليريس، يفتح الداهي أفقاً جديداً لما يسميه “الفضاء السيرذاتي الشعري”، حيث يلتقي الاعتراف بالتخييل، والبوح بالتحليل النفسي، والشهادة بالأسطورة الشخصية. فقصيدة ليريس، كما يرى، ليست كتابة عن الذات، بل كتابة من داخل الذات، بحثاً عن “الأنا العميقة” التي لا تُعرّف بالكلمات بقدر ما تُستشعر بالارتجاج الداخلي.

 

هكذا، يتحول الدرس الافتتاحي إلى بيان ثقافي حول ضرورة تجاوز المقاربات الجاهزة للشعر، نحو فهم يتعامل معه كحقل أنطولوجي، لا لغوي فقط، وكمساحة للوجود الإنساني في صيغته الأكثر هشاشة وعمقاً.

20251024 194457 - أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

نبض القصيدة.. الشعر كاعتراف وجودي

الفقرة الثانية، “نبض القصيدة”، لم تكن بعيدة عن هذا الأفق الفكري، إذ جاءت القراءات الشعرية للشاعرين فتيحة النوحو وإسماعيل آيت إيدار كامتداد حي للأسئلة التي طرحها الداهي.

قصائد فتيحة النوحو تُكتب من الجرح، من الأنا التي “تربّي الأمل وسط الرماد”، كما لو أن الشعر عندها فعل مقاومة ضد العدم. إنها كتابة تخرج من الحافة، لتعيد للذات حقها في السؤال والاحتجاج، في زمن أصبحت فيه القصيدة مرآة للانكسار أكثر منها مرآة للجمال.

 

أما إسماعيل آيت إيدار، الشاعر الشاب الذي بدأ يرسخ حضوره في المشهد الشعري المغربي، فقدّم قصائد تنوس بين اليومي والميتافيزيقي، بين الطين والنور، وبين الواقع والمجاز. في نصوصه يتجلى ما سماه الداهي “البحث عن الأنا العميقة”، تلك الأنا التي لا تكتفي بالاعتراف، بل تحوّل التجربة إلى سؤال مفتوح حول ماهية الإنسان ومعنى الوجود.

 

آيت إيدار، كما بدا في قراءته، يكتب شعره كمن يُجري حواراً مع نفسه، أو مع الصمت، ليقول إن الشعر لم يعد خطاباً عن العالم، بل تجربة للوجود في العالم.

20251024 200832 - أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

دار الشعر بمراكش.. مختبر الذات واللغة

ليس جديداً أن تتحول دار الشعر بمراكش إلى مختبر حقيقي للأسئلة النقدية والجمالية، فهي لا تكتفي بتنظيم أمسيات أو لقاءات، بل تفتح مجالات للتفكير في الشعر بوصفه ظاهرة ثقافية وتجربة معرفية.

الدرس الافتتاحي هذا الموسم، بما حمله من كثافة فكرية وجمالية، يُعيد الاعتبار للشعر كأفق للتأمل في الذات المعاصرة، في زمن تراجعت فيه الحدود بين ما هو شعري وسيري وفلسفي.

 

هكذا، يصبح الشعر في فضاء مراكش فعلاً وجودياً لا مجرد كتابة، وسؤالاً مستمراً عن “أنا” لا تكتمل إلا في اللغة، ولا تنجو إلا بالقصيدة.

الاخبار العاجلة