تطل مسرحية “شميعة” كعمل مسرحي مغربي ينهل من عمق الثقافة الروحانية والتراث الأصيل، مقدماً تجربة لا تكتفي بجمالية العرض بل تغوص في أبعاد إنسانية ووجودية عميقة. تأليف وإخراج مسرحية “شميعة” عثمان لحياوين، الذي استطاع أن يمزج بين الحس الجمالي والرؤية الفكرية ليقدم عملاً متكاملاً في الشكل والمضمون. القصة، التي تتمحور حول عائلة بطلها “الطاهر” في صراعها مع قرار الأم “نوارة” الذهاب إلى الحج، ليست مجرد حكاية شخصية، بل هي مرآة تعكس العلاقة الأزلية بين الروح والمادة، بين الواجب الديني والارتباط العائلي، لتصبح الرحلة الخارجية رمزاً لرحلة داخلية شاقة. إن هذا الثقل الروحي الذي تحمله الشخوص، وتلك الحبكة الدرامية المتصاعدة والمقسمة إلى ست لوحات فنية، تدفعنا للتساؤل: كيف استطاع الإخراج أن يترجم هذا العالم الروحاني المعقد إلى لغة بصرية وحركية معاصرة ومفهومة للجمهور؟
يكمن الجواب في “الرؤية الإخراجية” التي اعتمدت على الجمع بين الأساليب الدرامية الكلاسيكية والمعاصرة، تحديداً استخدام “الرجل الشاعر” كمخاطب مباشر للجمهور عبر تقنية الميكروفون، وهو ما يذكر بـ “الملحمي” الذي يكسر الجدار الرابع ويشرك المتفرج في عملية السرد. لكن العنصر الأبرز يظل توظيف جسد الممثلين في تكوينات حركية تعتمد على الإيقاع المتكرر، مستمدة من تعبيرات جسدية وحركات وإيماءات تحمل طابع الرقص الصوفي . هذا المزيج بين الإلقاء الشعري المباشر والحركة الصوفية الغائرة في الروح المغربية، يخلق جسراً فنياً يربط بين فنون الأداء الكبرى والتعبير المحلي العميق. كما أن استخدام الإضاءة لتوليد “التدرج في التعبير عن القوة والضعف” هو توظيف تقني يخدم الحالة النفسية للبطل، ليجعل من كل تفصيل بصري مرادفاً لحالة روحية. ومع كل هذا التجسيد العميق للروحانية المغربية، يبرز تساؤل آخر: ما هي الآليات السينوغرافية والموسيقية التي ساهمت في تعزيز هذه الأجواء التراثية الصوفية على خشبة المسرح؟
في تصميم الديكور والموسيقى، اعتمد العرض على إدماج أصالة التراث مع حداثة التقنيات. فجاء الديكور ليُبنى على “النسيج المعلق”، والذي يتجاوز وظيفته البسيطة ليصبح “خفيفاً ومهيباً”، يعمل كمادة خام للذاكرة والتحول. إنه قماش “يتنفس وينكمش ويهتز مع الهواء”، يمثل حاجزاً حسياً بين الإنسان والمعاصي، ويعكس التناقض بين الواقع والخيال. أما الموسيقى، فقد شكلت ركناً أساسياً، حيث جرى توظيف “الموسيقى الصوفية التقليدية” ومزجها بـ “الإيقاع المعاصر” عبر أدوات رقمية مثل برنامج FL Studio. هذا المزج لم يكن عشوائياً، بل استهدف “مخاطبة المتلقي المعاصر” وتوسيع “أفق التعبير” ليناسب السياق الدرامي المتصاعد. إن اختيار أزياء الشخصيات لم يكن أقل رمزية، حيث تم تصميمها بألوان وأنسجة تحمل دلالات خاصة، خصوصاً دمج اللونين الأحمر والأخضر اللذين يرمزان للوطنية والبركة والروحانية في الزاوية المغربية. كل هذه العناصر مجتمعة تشير إلى إصرار على تقديم عمل متكامل. ولكن يبقى السؤال المحوري: في ظل هذا التراكم الفني والروحي، كيف يمكن لهذا العرض، بكل رموزه الصوفية العميقة، أن يلامس قضايا الإنسان المعاصر ويتجاوز حدود المحلية؟

إن مسرحية “شميعة” ليست احتفاءً بالماضي فحسب، بل هي محاولة لإعادة قراءة الذاكرة والتراث في ضوء الحاضر. القضايا التي يطرحها العرض، مثل “معاناة الوحدة” و “عذاب الفراق” المستمدة من أصل الحكاية، هي قضايا إنسانية عالمية. شخصية “المريد”، وهو “الأب الروحي للزاوية”، لا يمثل مجرد رمز ديني، بل هو صوت الحكمة الذي يرشد الناس، فيستحضر بذلك دور الحكيم في كل ثقافة. كما أن نهاية المسرحية، التي تختتم بـ “اللوحة السادسة” التي تروي “ظهور فتاة في الزاوية… وتنتهي المسرحية بكلمة الراوي”، تحمل وعداً بالاستمرارية والأمل الذي يولد من رحم الفقد. إن هذا التركيز على الخلاص الروحي والارتقاء بالنفس هو جوهر العمل الذي يجعله يتجاوز المحلية.







































