في خضم مرحلة دولية يتسارع فيها التحول الاستراتيجي وتعيد فيها القوى الإقليمية والدولية ترتيب أولوياتها وأدوات تأثيرها، تعود قضية الصحراء المغربية إلى مركز النقاش الدولي بوصفها واحدة من أكثر القضايا التي تتقاطع فيها الشرعية التاريخية مع رهانات السيادة الوطنية، وتلتقي فيها الواقعية السياسية مع متطلبات الأمن الإقليمي. والمغرب، الذي استطاع خلال العقدين الأخيرين أن ينتقل من موقع الترقب إلى موقع المبادرة، أعاد صياغة حضوره داخل المنظومة الأممية عبر دبلوماسية نشيطة وواقعية مدعومة بمنجزات تنموية بارزة في الأقاليم الجنوبية، ما جعل الملف يتحول من قضية دفاعية إلى واجهة مركزية في تموقع المملكة ضمن توازنات المنطقة.
ومع صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي أعاد التأكيد على أن الحل السياسي الواقعي والعملي والدائم هو الإطار الوحيد القادر على تسوية هذا النزاع المفتعل، وجد المغرب نفسه أمام لحظة سياسية دقيقة تستدعي إعادة هيكلة سرديته الدبلوماسية بما ينسجم مع هذا التحول الأممي، ويعكس في الوقت ذاته الدينامية الداخلية المتجددة للدولة. وفي هذا السياق، يبرز القرار الملكي بتحيين مبادرة الحكم الذاتي وتفصيل مضامينها باعتباره خطوة استراتيجية تتجاوز مجرد مراجعة تقنية لوثيقة طرحت سنة 2007، لتشكل انتقالاً نوعياً نحو مرحلة ترسيخ النموذج المغربي داخل الشرعية الأممية كخيار ناضج، واقعي، وقابل للتطبيق.
واللافت في هذه اللحظة أن التحين لا يقتصر على مضمون المبادرة، بل يشمل طريقة تدبيرها، إذ اختار جلالة الملك إشراك الأحزاب الوطنية في عملية بلورة النسخة المحدثة. وهو خيار يحمل دلالات دستورية وسياسية عميقة، لأنه يعكس وعياً ملكياً بأن الإجماع الوطني الحقيقي لا يُبنى فقط من خلال بلاغات مؤسساتية، بل عبر إشراك فعلي للقوى السياسية في صناعة الخيارات السيادية، بما يمنح القرار المغربي قوة داخلية توازي وزنه الدبلوماسي في الخارج. إنها لحظة سياسية تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمشهد الحزبي، وتحوّل قضية الوحدة الترابية إلى مجال تعبئة مؤسساتي متكامل تتقاطع فيه الرؤية الملكية مع الدور الوطني للأحزاب.
وتوضح الأستاذة مريم بوجعبوط، المحاضرة بالجامعة الإسلامية بولاية مينيسوتا الأمريكية – فرع السنغال، أن هذا التوجه الملكي يعكس تفعيلًا متقدماً للوظيفة التحكيمية للمؤسسة الملكية كما نص عليها الدستور المغربي، إذ يضمن الملك وحدة الدولة واستمرارية مؤسساتها، وفي الوقت نفسه يفتح المجال أمام الأحزاب للمساهمة في بلورة تفاصيل المبادرة. وما يعنيه ذلك فعلياً هو الانتقال من قيادة عمودية للملف نحو قيادة تشاركية تساهم في تعزيز الشرعية الديمقراطية وتكريس المقاربة الوطنية الشاملة.
وتضيف أن إشراك الأحزاب ليس خطوة رمزية، بل امتداد طبيعي للرؤية التي تبنتها المملكة خلال السنوات الأخيرة، والمرتكزة على تعبئة كل القوى الوطنية حول قضية الوحدة الترابية. فبلورة نسخة محينة من المبادرة تمنح المغرب فرصة لإعادة بناء علاقة جديدة بين المؤسسات الدستورية والمشهد الحزبي، علاقة تقوم على المسؤولية المشتركة والوعي الجماعي بأن التحديات الخارجية تستدعي تماسكاً داخلياً صلباً وغير قابل للالتباس.
أما على مستوى القانون الدولي، فتؤكد بوجعبوط في تصريخ خاص لجريدة القضية بريس الإلكترونية، أن قرار مجلس الأمن رقم 2797 يمثل منعطفاً حقيقياً في مسار النزاع، لأنه أعاد تثبيت المرجعيات الأساسية للحل التي تعتمد الواقعية والنجاعة والدوام، وهي نفس القواعد التي ترتكز عليها المبادرة المغربية للحكم الذاتي منذ تقديمها سنة 2007. وهذا الانسجام بين المرجعية الأممية والطرح المغربي لم يعد مجرد قراءة وطنية، بل تحول إلى قناعة دولية متزايدة بأن المبادرة المغربية هي الإطار الجاد الوحيد القادر على إنتاج حل قابل للتطبيق وذي مصداقية.
وتشير إلى أن تحيين المبادرة ينسجم مع هذا التطور، لأنه يعكس نتائج المسار التنموي والديمقراطي الذي عرفته الأقاليم الجنوبية خلال السنوات الماضية، ويقدم للمجتمع الدولي نسخة محدثة تعكس التزام المغرب بمبادئ الشرعية الدولية وبروح ميثاق الأمم المتحدة، خاصة ما يتعلق بسيادة الدول ووحدة أراضيها. وترى أن هذا التحرك الدبلوماسي يعكس نضج الدولة المغربية وقدرتها على الانتقال من مرحلة الدفاع عن مواقفها إلى مرحلة صناعة المبادرة داخل الأمم المتحدة وإعادة صياغة قواعد النقاش.
وتخلص الأستاذة إلى أن المغرب يدخل اليوم مرحلة التمكين الدبلوماسي والسياسي، أي مرحلة الانتقال من تقديم المبادرة إلى تثبيت نموذجها، ومن الدفاع عن شرعيتها إلى ترسيخ موقعها داخل المنظومة الأممية، مستنداً إلى إجماع داخلي يقوده الملك وتدعمه الأحزاب الوطنية، وإلى اعتراف دولي متنام يجعل من تحيين مبادرة الحكم الذاتي خطوة استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة من الوضوح السياسي، والقوة الدبلوماسية، والانسجام الوطني حول قضية تعد جوهر السيادة المغربية.







































