في مساءٍ بارد من أمسيات تطوان، ومع إسدال الستار على الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للمسرح، حدث ما يشبه الالتماع المفاجئ في سماء الخشبة المغربية. فقد صعد اسم مسرحية “الحراز” بقوة، لتعلن لجنة التحكيم فوزها بجائزة الأمل، تلك الجائزة التي لا تُمنح فقط لعمل ناجح، بل لنبض جديد يعدُ بمستقبل آخر للمسرح المحلي. وكأن هذا الفوز لم يكن كافياً ليكتمل المشهد، عاد الاسم ذاته ليتردد مرة أخرى حين مُنح المخرج الأستاذ أمين ناسور جائزة الإخراج، مؤكداً أن ما شاهده الجمهور لم يكن صدفة، بل ثمرة رؤية واعية وصنعة مسرحية متقنة.
لم يكن الجمهور في تلك الليلة يشاهد عرضاً عادياً. كان الأمر أشبه بحكاية تُروى على الخشبة، حكاية تُصنع أمام العيون لا من الكلمات فقط، بل من الحضور، والإيقاع، والتناغم، والقدرة العجيبة على جعل الخيال حقيقة مؤقتة. فقد استطاع خريجـو الفوج 35 بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أن ينسجوا عالماً متكاملاً؛ عالم ينبض بالحياة، ينساب بسلاسة، ويقود المتلقي من لحظة لأخرى دون أن يفقده دهشة البداية.
ما ميّز “الحراز” في هذه الدورة لم يكن جرأة خريجي المعهد فحسب، بل ذلك الإصرار الواضح على تأكيد أن المسرح يمكن أن يكون مساحة للحداثة دون أن يتخلى عن جذوره. فبين سطور العمل، تلمع تحية صادقة لاسمين كبيرين في الذاكرة المسرحية المغربية: الطيب الصديقي وعبد السلام الشرايبي. لكن التحية هنا لم تكن إعادة إنتاج، بل إعادة بناء، بروح شابة تبحث عن مسارات جديدة للعرض المسرحي دون أن تفرّط في أصالته.

كان حضور خريجي المعهد على الخشبة لافتاً؛ يقفون بثقة، يتحركون بوعي، ينطقون النص وكأنهم يملكونه. كل واحد منهم كان قطعة من فسيفساء متناغمة تُكمل بعضها بعضاً في نغمة واحدة. وقد بدا واضحاً أن سنوات التكوين لم تكن مجرد دروس، بل تحوّلت إلى مهارات حيّة تتجسد على الخشبة بلا ارتباك، لتجعل الجمهور ينسى أنهم حديثو التخرج ويعاملهم كطاقات فنية جاهزة للانطلاق.
أما إدارة هذا العالم المسرحي، فقد قادها أمين ناسور بروح تجمع بين الحكمة والابتكار. فقد منح العرض إيقاعه الخاص، وخلق توازناً دقيقاً بين روح النص وجرأة التحديث. بدا وكأنه ينسج العمل بخيوط شفافة لا تُرى، لكنه يوجّه كل حركة وكل ضوء وكل انتقال، ليخرج العرض بملامح ناضجة، محكمة، ومليئة بالحيوية. ولعل فوزه بجائزة الإخراج لم يكن سوى اعتراف مستحق بقدرة هذا الرجل على تحويل رؤية فنية إلى تجربة تُعاش.
ولم يكتمل هذا العالم دون اللمسة البصرية التي حرص عليها الفريق التقني. أزياء مصممة بعناية، وإضاءة تفتح نافذة على مزاج كل مشهد، وسينوغرافيا تُعيد تشكيل المكان باستمرار؛ عناصر لم تكن مجرد زينة، بل لغة إضافية تحاور الممثل والجمهور في آنٍ واحد.

ومع نهاية العرض، وبين التصفيق الحار الذي ملأ القاعة، كان واضحاً أن “الحراز” لم تفز بجائزة الأمل لأنها تمثل المستقبل فحسب، بل لأنها أثبتت أن هذا المستقبل قد بدأ بالفعل. فقد كشف هذا العمل عن جيل من خريجي المعهد لا يكتفي بتقليد ما سبق، بل يجرّب، ويغامر، ويصنع مسرحاً مغربياً أكثر إشراقاً وعمقاً.
هكذا، غادرت الخشبة مساء الجمعة وهي تحمل بصمتين واضحتين: أن خريجي المعهد قادرون على أن يكتبوا الفصل القادم من المسرح المغربي، وأن “الحراز” لم تكن مجرد مسرحية، بل علامة مضيئة في مسار طويل من الإبداع.







































