لا بأس… أن ندفن لغتنا في حفلة مدرسية

القضية بريس26 يونيو 2025آخر تحديث : منذ 5 أشهر
القضية بريس
كُتّاب وآراء
لا بأس… أن ندفن لغتنا في حفلة مدرسية
أسماء الطويل

تلقيت دعوة لحضور حفل نهاية السنة الدراسية لابني. كانت البطاقة أنيقة… لكن مكتوبة بالفرنسية، دون أثر لحرف عربي واحد. قلت في نفسي: لا بأس، فبطاقة الدعوة لا ترفع الرصيد اللغوي ولا تنقصه.

 

دخلنا قاعة العرض وسط هرج ومرج أشبه بسباق انطلق قبل موعده. تدافع، تدافع، ودهس للصغير ودفع للكبير، ثم قيل “لا بأس”. بعض أولياء الأمور حجزوا مقاعد بامتياز بوضع الحقائب، لمن حضر ومن لم يحضر، ثم “لا بأس”.

 

وجدت أخيرًا مقعدًا شاغرًا، جلست. فإذا برجل يطلب مني النهوض لأنه “محجوز” لزوجته التي لا ظلّ لها. رفضتُ، فجلس هو مكاني. وهنا لم أستسغ الأمر. سألته: هل في العرف والدين والذوق العام ما يُبرّر أن يُطلب من امرأة ترك مقعد لتجلس عليه رجل بكامل صحته؟ لم أجد جوابًا… فوضعت “لا بأس” هذه المرّة بين القبول والرفض.

 

شدّني عنوان العرض: “Il était une fois”. جميل. لكنه لا يمتّ إلى لغتي، اللغة التي تسكنني وأسكنها، بأي صلة. فقلت: لا بأس، علّها رؤية تربوية.

 

بدأ الحفل بتلاوة قرآنية مباركة، فقلت: الحمد لله، ما زال للبركة مكان. تلتها كلمة إدارية… بالفرنسية. كلمات لم تلامس أذني، لم تحرّك مشاعري، لم أفهمها، لا لأنني أجهل اللغة، بل لأنها فارغة، لا تحمل روحًا. نظرت حولي: الجميع مغاربة، لا أجانب في القاعة. نحن في الجديدة، المغرب، لا في باريس ولا في قصر الإليزيه. فلماذا هذا الخطاب المفرنس؟

 

تذكرت البلغاء والخطباء، كيف كانوا يطوّعون العربية لتلامس القلوب قبل العقول، بلا مؤثرات ولا موسيقى. كانوا يُبدعون بالقافية والسجع، فيُصغِي لهم القلب قبل الأذن.

 

توالت المشاهد… مشهد وراء آخر بلغة فرنسية مكسّرة، محفوظة عن ظهر قلب، خالية من الروح. أطفالنا كانوا يؤدّونها كما يُلقى الحجر من اليد، ينتظرون فقط نهاية الموسيقى ليرددوا كلمات لا تشبههم.

 

مشهد يليه آخر… ابني يدخل بلباس أمير يبحث عن حذاء سندريلا، ثم حوار عن تفاحة لم تقتل بياض الثلج، وذات قبعة حمراء خدعها الذئب. قلنا من جديد: لا بأس، لقد نطقوا الفرنسية!

 

لكن، هل كانت لتقلّ قيمة الحفل لو تضمن عرضًا بلغة عربية فصحى؟ عرض يعيد إلينا أمجاد طارق وابن سينا والخوارزمي؟ هل كان سيضير لو رفع الستار عن مشهد يفتتح بـ: “كان يا ما كان في قديم الزمان…” بدل “Il était une fois”؟

 

كان سيصنع الفرق بلا شك. كنا سنخرج مرفوعي الرأس، ممسكي الأيدي بأطفالنا، نردد معًا أننا لا زلنا هنا… نعتز بلغتنا، نحتفي بهويتنا.

 

أما وقد اختاروا استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى، فقد صار “لا بأس” طوق نجاة لتبرير كل تراجع، وكل خضوع، وكل انبهار زائف. ولكني اليوم، أقولها بملء القلب: كل البأس لنا، ما دمنا نربّي أبناءنا على نطق الفرنسية ولا نربّيهم على الاعتزاز بالعربية.

الاخبار العاجلة