في قلب البلقان، تعود سراييفو إلى واجهة المشهد السينمائي مع الدورة الحادية والثلاثين لمهرجانها الدولي، التي تنعقد بين 15 و22 غشت 2025، وتستقطب هذا العام خمسين فيلمًا من مختلف أنحاء أوروبا الشرقية والعالم. تتوزع هذه الأعمال على أربع مسابقات رئيسية تعكس تنوع الأشكال السينمائية: الفيلم الروائي، الوثائقي، القصير، وأفلام الطلبة. هذا التنوع لا يقتصر فقط على الشكل، بل يتجاوز ذلك ليعكس تعددية في الخلفيات الثقافية والأساليب السردية والاهتمامات الموضوعية.
فريق البرمجة، بقيادة المديرة الإبداعية إزيتا غراجيفيتش، اختار هذه العناوين بعناية، انطلاقًا من أكثر من ألف فيلم تمّت مشاهدته خلال الأشهر الماضية، بينهم ما يزيد عن مئتي عمل روائي ومئات الوثائقيات والأفلام القصيرة والطلابية. هذه العملية الصارمة أفرزت مجموعة من الأفلام التي تجتمع حول سؤال مركزي يتردد في المهرجان هذا العام: كيف نحيا ونبقى داخل مجتمعات تبدو في حالة اضطراب دائم؟ بالنسبة لغراجيفيتش، فإن هذه الدورة تذهب إلى ما هو أبعد من الحدود الجغرافية، لتبحث في القيم الإنسانية المشتركة مثل المعنى والقرب والفهم.
هذا التوجه يظهر بوضوح في اختيارات المسابقة الروائية، حيث تسع أفلام تمثل نماذج مختلفة من الإنتاج المشترك والرؤية السينمائية المتعددة. من بينها فيلم “OTTER (VIDRA)”، وهو إنتاج يجمع بين الجبل الأسود والبوسنة وإيطاليا وكرواتيا وكوسوفو، ويعرض لأول مرة عالميًا. كما يشهد المهرجان العرض العالمي الأول لفيلم “STARS OF LITTLE IMPORTANCE” القادم من المجر، إلى جانب “YUGO FLORIDA” الذي ينسج سرديته من مزيج صربي بلغاري فرنسي. التعدد لا يقتصر على الدول المنتجة بل ينسحب على التوجهات الإبداعية، حيث تتنوع الأساليب من الواقعية الاجتماعية إلى الفانتازيا الرمزية، في أعمال مثل “DJ AHMET”، و”FANTASY”، و”GOD WILL NOT HELP”.

الاهتمام بالواقع لا يقتصر على السينما الروائية فقط، بل يتجلى بعمق في المسابقة الوثائقية التي تضم عشرين فيلمًا تسلط الضوء على قضايا الهوية، التاريخ، والصراعات المعاصرة. هنا نجد “BOSNIAN KNIGHT” الذي يعرض للمرة الأولى عالميًا، مستعيدًا سردية محلية ببعد تاريخي مؤلم، إلى جانب “I SAW A ‘SUNO’” من المجر وبلجيكا، الذي يقدم مقاربة شاعرية للذاكرة. هذه المسابقة تنفتح كذلك على تجارب أكثر تجريبية كما في “MILITANTROPOS”، الذي ينقل المشاهد بين أوكرانيا وفرنسا والنمسا في مقاربة سياسية حادة، بينما يذهب “TATA” نحو الطابع الشخصي والحميم، مستعرضًا علاقات تتقاطع فيها الثقافة الأوروبية والهويات العائلية.
ومع الانتقال إلى المسابقات القصيرة والطلابية، يأخذ المهرجان طابعًا أكثر حيوية وجرأة. الأفلام القصيرة، وعددها عشرة، تتعامل مع موضوعات كثيفة بلغة سينمائية مكثفة، كما هو الحال مع “BERNA’S EYES” و”DESERT, SHE”، وكلاهما يُعرض عالميًا لأول مرة. أما أفلام الطلبة، فهي بمثابة مختبر سينمائي مفتوح يتيح للتجارب الأولى أن تلامس الحاضر بأساليب غير تقليدية، ومن بينها “AFTER CLASS” من رومانيا و”HOME, A SPACE BETWEEN US” من اليونان، اللذان يعالجان مساحات الهشاشة والانتماء من زوايا جمالية جديدة.
وسط هذا الزخم، لا يغفل المهرجان عن لحظات الاعتراف والتكريم، حيث يُمنح “قلب سراييفو الفخري” هذا العام للمخرج الإيطالي باولو سورينتينو، تقديرًا لمسيرته التي تركت بصمة في السينما العالمية بخصوصيتها البصرية ورؤيتها المعمقة للعالم.
في محصلته، لا يكتفي مهرجان سراييفو بدور العرض والترويج، بل يتحول إلى مساحة للإنصات، لحكايات تتقاطع فيها الجغرافيا والسياسة والذات، حاملة نَفَس السينما المستقلة وصدقها. دورة هذا العام تواصل هذا التقليد، معيدة التأكيد على موقع سراييفو كنافذة تُطل منها السينما على واقع يفتش عن نفسه.







































