في لحظة تشهد فيها قضية الصحراء المغربية تحوّلاً دبلوماسياً لافتاً داخل أروقة مجلس الأمن الدولي، تعود جبهة “البوليساريو” بخطاب جديد تحاول من خلاله تقديم نفسها كقوة “براغماتية” منفتحة على السلام، غير أن مضمون بيانها الأخير يفضح تناقضاً جوهرياً بين لغتها التصالحية وشروطها السياسية المتقادمة، التي ما زالت تدور حول أطروحة “الاستفتاء” التي تجاوزها المجتمع الدولي منذ أكثر من عقد ونصف.
ففي بيان صادر عما تسميه الجبهة “ممثلها لدى الأمم المتحدة”، أعلنت “البوليساريو” تقديم ما وصفته بـ”نص مقترح” إلى الأمين العام للأمم المتحدة، واعتبرت ذلك “مبادرة حسن نية” و”استجابة لقرارات مجلس الأمن”. لكن مضمون هذا المقترح لا يحمل أي جديد سياسي، إذ يعيد الجبهة إلى نقطة الصفر من خلال التمسك بخيار “تقرير المصير عبر استفتاء”، في الوقت الذي تؤكد فيه جميع القرارات الأممية منذ سنة 2007 أن الحل يجب أن يكون “واقعياً، عملياً ودائماً”، وهي صيغة تتوافق مع المقترح المغربي للحكم الذاتي الذي يلقى تأييداً دولياً واسعاً.
ويبدو أن الجبهة، عبر إطلاقها لعبارة “تقاسم فاتورة السلام”، تحاول إضفاء بعد رمزي على موقفها السياسي المأزوم، في محاولة لتقديم نفسها كشريك مستعد للحوار وتحمل جزء من مسؤولية الحل. غير أن هذه اللغة الجديدة لا تخفي حقيقة الانغلاق الفكري والسياسي الذي يطبع مواقف القيادة الانفصالية، خاصة في ظل العزلة المتزايدة التي تواجهها بعد انحسار الدعم الدولي وتراجع المواقف المتعاطفة معها داخل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
فالحديث عن “الاستعداد لتقاسم فاتورة السلام” لا يوازيه أي استعداد حقيقي لتغيير المواقف أو القبول بمقاربة واقعية، بقدر ما يعكس محاولة متأخرة لإعادة التموقع أمام موجة التأييد الدولي المتنامي لمبادرة الحكم الذاتي المغربية. فبينما تحاول “البوليساريو” تسويق خطاب “التفاوض دون شروط مسبقة”، فإنها في الوقت نفسه تضع “الاستفتاء” شرطاً أساسياً، ما يجعل خطابها السياسي متناقضاً في جوهره: يدعو إلى السلام من جهة، ويضع عراقيل أمام أي تسوية ممكنة من جهة أخرى.
في المقابل، توضح المسودة الأمريكية لمشروع القرار رقم 2756، التي تم توزيعها على أعضاء مجلس الأمن، أن مقترح الحكم الذاتي المغربي يمثل “الأساس الأكثر جدية وموثوقية وواقعية” للتوصل إلى حل سياسي دائم، داعية إلى اعتماده كإطار وحيد لاستئناف المفاوضات. وتشدد الوثيقة على دعم جهود المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، في دفع العملية السياسية قدماً مع الأطراف الأربعة: المغرب، البوليساريو، الجزائر، وموريتانيا.
وتصف المسودة الأمريكية الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية بأنه “الحل الأكثر جدوى”، مع التأكيد على دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهذا الموقف، وإعلانه عن فتح قنصلية أمريكية في الأقاليم الجنوبية للمملكة في سياق دعم واشنطن لسيادة المغرب على صحرائه. كما تدعو المسودة إلى تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء (المينورسو) حتى يناير 2026، مع إلزام الأطراف بالانخراط في مفاوضات “دون شروط مسبقة”، وتكليف الأمين العام بتقديم إحاطات دورية حول مسار العملية السياسية.
وفي موازاة هذا الحراك الأممي، كشف المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عن مساعٍ تقودها واشنطن لتهيئة الظروف لإبرام اتفاق سلام بين المغرب والجزائر خلال فترة وجيزة، مشيراً إلى أن “اتفاقاً محتملاً يمكن أن يرى النور خلال ستين يوماً”، فيما أكد مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية دعم بلاده الثابت لمغربية الصحراء.
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن جبهة “البوليساريو” تعيش مأزقاً سياسياً مركباً: فهي تحاول الظهور كفاعل مسؤول منفتح على الحوار، لكنها تظل سجينة خطابها القديم الذي فقد كل صلة بالواقع الدبلوماسي الجديد. وبينما تتسارع التحركات الأمريكية والأممية لتثبيت مقاربة الحكم الذاتي كحل وحيد للنزاع، تبدو الجبهة الانفصالية غارقة في تناقضاتها، تتحدث عن “السلام” بلغة رمزية، لكنها ترفض كل ما يمكن أن يفضي إليه في الممارسة.
إن بيان “البوليساريو” الأخير ليس أكثر من محاولة لترميم صورة سياسية متصدعة، في وقت حسم فيه مجلس الأمن ومعظم العواصم الكبرى موقفهم من النزاع لصالح مقاربة مغربية تجمع بين السيادة والجهوية المتقدمة، باعتبارها الخيار الواقعي الوحيد لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة المغاربية.







































