قراءة في انحياز قناة الجزيرة في تغطية قضية الصحراء المغربية:الحياد الإعلامي بين الشعار والممارسة

القضية بريس11 نوفمبر 2025آخر تحديث : منذ 3 أسابيع
القضية بريس
كُتّاب وآراء
قراءة في انحياز قناة الجزيرة في تغطية قضية الصحراء المغربية:الحياد الإعلامي بين الشعار والممارسة
عبد الله مشنون - كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا

منذ انطلاقتها، قدّمت قناة الجزيرة القطرية نفسها كمنبر للرأي والرأي الآخر، ومختبرٍ للتعدد الفكري والسياسي في العالم العربي. غير أنّ هذا الشعار الذي طالما منحها مكانة خاصة لدى الجمهور العربي، يبدو أنه بدأ يفقد بريقه كلما تعلق الأمر بالمغرب، وتحديدًا بقضية وحدته الترابية في الصحراء المغربية، وهي القضية التي تعتبرها الرباط حجر الزاوية في سيادتها الوطنية وهويتها التاريخية.

خلال الأسابيع الأخيرة، أثارت إحدى حلقات قناة الجزيرة نقاشًا واسعًا في الأوساط المغربية والعربية بعد أن خصصت حيزًا لقضية الصحراء المغربية، لكن بطريقة عكست انحيازًا واضحًا وممنهجًا في بناء الحلقة وضيوفها ومضامينها.
فبدل أن يكون النقاش مفتوحًا ومتوازنًا بين وجهات النظر المختلفة، اختارت القناة ضيفين معروفين بتبني السردية الجزائرية حول الملف، مقابل ضيف مغربي وحيد وجد نفسه في موقع الدفاع المستميت عن الموقف الوطني وسط موجة من الخطاب الموجَّه والمعدّ سلفًا.

هذا الترتيب لم يكن مجرد صدفة أو خطأ مهني، بل يعكس خللًا عميقًا في فهم وظيفة الإعلام كفضاء للحوار المتوازن، وليس كمنصة لإعادة إنتاج خطاب سياسي محدد. والأدهى من ذلك أن مقدمي البرنامج سمحوا لأنفسهم بالمقارنة بين “جنوب المغرب” و“جنوب السودان”، في إسقاط غير بريء يرمي إلى شرعنة فكرة “الانفصال” التي تروّج لها الجزائر وجبهة البوليساريو  الانفصالية منذ عقود.

لا يخفى على المتابعين أن تركيبة غرفة التحرير في قناة الجزيرة تلعب دورًا مهمًا في تشكيل الخط التحريري للقناة، خصوصًا في الملفات ذات الحساسية السياسية. ففي حين تضم القناة طاقمًا متنوعًا من مختلف الدول العربية، إلا أن الصوت الجزائري يبدو أكثر حضورًا وتأثيرًا في ما يتعلق بتغطية قضايا المغرب.
هذا التوجه يفسّر جزئيًا الانزلاق المتكرر نحو الرواية الجزائرية في برامج القناة، التي تُبث بلهجة توحي وكأنها قادمة من استوديوهات الجزائر العاصمة أكثر منها من الدوحة.

وما يثير القلق أن هذا النوع من التحيز لم يعد يُمارَس بذكاء أو تحفظ كما كان في سنوات مضت، بل أصبح واضحًا ومباشرًا، حتى في انتقاء المصطلحات التي تحمل دلالات سياسية دقيقة — فبينما يتحدث المغرب رسميًا ودوليًا عن “الأقاليم الجنوبية”، تصر القناة على استعمال عبارات من قبيل “الصحراء الغربية”، في تحدٍّ صريح للمصطلح الأممي الذي يحترم سيادة الدول ووحدتها الترابية.

الخلل الذي تعانيه قناة الجزيرة في هذا الملف لا يمكن فصله عن السياق السياسي للعلاقات الإقليمية. فمنذ سنوات، تعيش العلاقات المغربية–القطرية حالة مدّ وجزر تتأثر أحيانًا بتموضعات الدوحة الإقليمية وتحالفاتها المتقلبة. وفي ظل هذا الواقع، يبدو أن الملف المغربي يتحول بين الفينة والأخرى إلى ساحة لتصفية الحسابات الإعلامية والسياسية، على حساب المهنية والموضوعية التي يقتضيها العمل الصحفي.

الإعلام، في جوهره، ليس طرفًا في النزاعات، بل مساحة لتقريب وجهات النظر وفهم السياقات، لكن حين يتحول إلى أداة في يد أجندة معينة، يفقد مصداقيته ويصبح جزءًا من المشكلة لا وسيلة لحلها.

ما يؤسف له أن صورة المغرب في بعض المنصات الإعلامية العربية لا تُبنى على معطيات واقعية أو ميدانية، بل تُختزل في روايات جاهزة يتم تدويرها من منبر إلى آخر.
وحين يشارك ضيف مغربي للدفاع عن بلاده، يجد نفسه محاصرًا بمحاورين ومقدّمين يصيغون الأسئلة بطريقة توجيهية تجعل من الحوار مناظرة غير متكافئة.
إنها ممارسة تُفقد الإعلام قيمته كوسيط نزيه، وتحوّله إلى أداة ضغط ناعمة تسعى لتأطير الرأي العام وفق منظور محدد مسبقًا.

ومع أن المغرب تعوّد على مواجهة هذه الحملات الإعلامية المتكررة، إلا أن تكرارها في منبر له وزن الجزيرة يثير التساؤل حول مدى جدّية القناة في الحفاظ على إرثها المهني الذي ميّزها خلال عقدين من الزمن.

من السهل أن ترفع قناة إعلامية شعار “الرأي والرأي الآخر”، لكن الأصعب هو أن تترجمه إلى ممارسة يومية تحترم ذكاء المشاهد وحقه في معرفة الحقيقة دون توجيه.
والمفارقة أن القناة التي طالما انتقدت الإعلام الرسمي العربي بسبب “غياب التوازن والرقابة”، أصبحت اليوم تمارس ذات الممارسات، لكن بغطاء مهني أنيق.
ففي الوقت الذي يدافع فيه المغرب عن وحدة أراضيه بالوثائق والقانون الدولي والمبادرات التنموية في أقاليمه الجنوبية، تُصرّ بعض وسائل الإعلام على تقديمه وكأنه خصم في معركة مفتعلة، بدل أن تُبرز دوره المتوازن في تحقيق الاستقرار الإقليمي والتنمية الإفريقية.

إن ما تحتاجه الساحة الإعلامية العربية اليوم ليس منابر تُعيد تدوير الصراع، بل فضاءات مسؤولة تضع المهنية فوق الاصطفاف.
قضية الصحراء المغربية ليست مجرد ملف سياسي، بل قضية وجود وهوية، وامتحان حقيقي لمدى التزام الإعلام العربي بالحياد والمصداقية.
وإذا كانت قناة الجزيرة تسعى فعلاً للحفاظ على مكانتها كمنصة مؤثرة، فعليها أن تعيد النظر في طريقة تناولها للملف المغربي، وأن تمنح الكلمة لكل الأطراف بعدلٍ واحترامٍ يليق بالجمهور العربي.

الاخبار العاجلة