بين الوحي والبيان النبوي: منهجية قراءة العلاقة بين القرآن والسنة في ضوء أصول التشريع

القضية بريس27 نوفمبر 2025آخر تحديث : منذ أسبوع واحد
القضية بريس
كُتّاب وآراء
سياحة القنّاصة في سراييفو: جرحٌ أوروبي مُهمل يعود ليطالب بالعدالة بعد ثلاثة عقود
عبد الله مشنون
عبد الله مشنون- إيطاليا

جاء اختياري للكتابة في هذا الموضوع بعد متابعة ما يُنشر في عدد من المواقع، وما يتداول على منصّات التواصل الاجتماعي من أطروحات تُعيد إحياء نقاش قديم متجدد حول: دور النبي ﷺ في التشريع، وحدود العلاقة بين القرآن والسنة، وهل كان الرسول مبلّغًا للوحي فقط أم مشرّعًا أيضًا؟

وبوصفي كاتبًا صحفيًا يحرص على تقديم مادة معرفية رصينة تُسهم في تنوير الرأي العام، رأيت أن هذا الجدل — رغم قدمه — لا يزال يُطرح بطرق مجتزأة، وأحيانًا بمنهجيات تفتقر إلى أدوات البحث الأصولي واللغوي.

ومن هنا، جاءت هذه الدراسة لتقدّم قراءة منهجية تجمع بين الدليل، والتحليل، والتاريخ، وضبط المفاهيم، حتى لا يُخطف هذا النقاش إلى التبسيط أو إلى المبالغات.

 

أولًا: وظيفة “قُل” في القرآن… إثبات مصدرية الوحي لا نفي البيان النبوي

 

من أكثر الأدلة استخدامًا عند من ينفي الدور التشريعي للرسول ﷺ الاستشهاد بتكرار كلمة «قل» في القرآن — أكثر من 320 مرة — باعتبارها برهانًا على أن النبي لم يكن يملك صلاحية البيان أو الفتوى.

 

غير أن هذا الاستدلال لا يصمد أمام الدرس اللغوي والأصولي، إذ إن “قل” في لغة العرب وأسلوب القرآن تؤدي وظيفتين واضحتين:

 

بيان أن مصدر الجواب هو الله تعالى

أي أن العقائد الكبرى والأحكام القطعية مصدرها الوحي لا الرأي البشري.

 

إبراز أن النبي يبلغ رسالة لا يغيّر فيها ولا يحجُبها

وهي وظيفة البلاغ، لا نفي البيان.

 

بل إن القرآن نفسه أثبت للنبي ﷺ وظيفة أخرى محورية:

 

﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾

(النحل: 44)

 

والتبيين — كما يقرر علماء الأصول — يشمل:

الشرح، التفصيل، التطبيق، والتشريع البياني.

 

ثانيًا: السنة وحي غير متلو… مكانها ثابت في بنية التشريع

 

يفرق العلماء بين نوعين من الوحي:

 

الوحي المتلو: القرآن الكريم (لفظًا ومعنًى من الله)

 

الوحي غير المتلو: السنة (المعنى من الله، واللفظ من النبي ﷺ)

 

وهذا ما يستند إلى قوله تعالى:

 

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾

 

ولهذا قال الإمام الشافعي:

 

“كل ما حكم به رسول الله فهو مما فهمه من كتاب الله.”

 

فالسنة ليست رأيًا بشريًا منفصلًا، وليست تشريعًا خارج الوحي، بل امتداد بياني وتطبيقي للكتاب.

 

ثالثًا: الاجتهاد النبوي… تشريع مراقَب بالوحي

 

تصوير النبي ﷺ كـ”مجرد ناقل” بلا اجتهاد يناقض عشرات الوقائع الثابتة في السيرة، ومنها:

 

أسرى بدر

 

أحكام الديات

 

تنظيم الغنائم

 

القضاء بين الخصوم

 

قضايا البيع والأنكحة والمعاملات

 

صلاة العصر في بني قريظة

 

حادثة تحريم العسل

 

وهذه الوقائع تؤسس لقاعدة أصولية معروفة:

 

“الاجتهاد النبوي المراقَب بالوحي”

 

أي:

يجتهد النبي، ويأتي الوحي مصحّحًا عند الحاجة.

وجود التصحيح ليس نفيًا للاجتهاد، بل دليلاً على أنه كان واقعًا بالفعل.

 

رابعًا: السؤال والجواب في القرآن… تنظيم للعلاقة بين الوحي والرسول

 

جاءت في القرآن صيغ متكررة:

 

﴿يَسْأَلُونَكَ… قُلْ﴾

 

وهي لا تنفي الفتوى عن النبي، بل تُظهر أن:

 

الحكم مصدره الله

 

والبلاغ والبيان والتطبيق عند النبي ﷺ

 

وإلا فكيف نفهم الأمر الإلهي الصريح:

 

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾

(الحشر: 7)

 

وهو نصّ تشريعي مستقل لا يحتمل التأويل.

 

خامسًا: السنة بين التنقية والنسف… ضبط علمي لا قطيعة معرفية

 

الدعوة إلى “تنقية السنة” دعوة علمية صحيحة في أصلها، وقد مارسها المحدّثون عبر القرون.

لكن التنقية شيء…

وإلغاء السنة شيء آخر.

 

فلا يمكن لعقل أكاديمي منصف أن ينكر:

 

أن الصلاة تفاصيلها من السنة

 

والزكاة أنصبتها من السنة

 

والحج شعائره من السنة

 

والبيوع، والأنكحة، والحدود، والقضاء… كلها مؤسسة على السنة

 

فالقرآن وضع الأصول، والسنة قدّمت التفصيل التطبيقي الملزم.

 

سادسًا: خطأ القراءة التجزيئية… وأثرها في تفكيك بنية الدين

 

إقصاء السنة بدعوى الاكتفاء بالقرآن يؤدي — علميًا ومنهجيًا — إلى:

 

إلغاء فهم الصحابة

 

إسقاط إجماع الأمة

 

تعطيل نظام التشريع

 

نفي البيان النبوي

 

وفتح الباب للفوضى التأويلية

 

فالقرآن كتاب أصول، والسنة كتاب تفاصيل وبيان.

والفصل بينهما كفصل الروح عن الجسد.

 

إن إدراك الفرق بين الوحي المنزل والبيان النبوي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة منهجية لحماية بنية التشريع من العبث. فالرسول ﷺ لم يكن مشرّعًا بالاستقلال، ولم يكن ناقلًا بلا دور؛ بل كان مبيّنًا للوحي، مجتهدًا بإذن الله، ومصحَّحًا بالوحي عند الحاجة، وهو المقام الذي منحه الله له: عبد الله ورسوله.

 

وبهذا الفهم المتوازن تستقيم العلاقة بين القرآن والسنة، ويستقر البناء التشريعي كما عملت به الأمة عبر قرونها.

الاخبار العاجلة