انقسمت فرنسا بعد إعلان الرئيس الفرنسي ” ايمانويل ماكرون ” في ليلة التاسع من يونيو عن حل البرلمان و تشريعيات مبكرة..مباشرة بعد النتائج الكارثية التي سجلها حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي…وراء حزب لوبان ” التجمع الوطني “…
فتعددت أوصاف ماكرون على خلفية هذا القرار بين المغامر و المتسرع ، و منهم من اعتبره حالة ” انفعال عاطفي” للرئيس و تحدي شخصي أمام زعيم التجمع الوطني ” جوردان بارديلا” الذي وصفه بالضعيف و بضرورة إعلان تشريعيات مبكرة…
و الواقع أن قرار ماكرون بحل البرلمان شكل زلزالا سياسيا قويا داخل الطبقة السياسية و النخبة بفرنسا..إذ لم تسلم من تردداته كل الاطياف السياسية..ففي معسكر اليسار مثلا ، أثيرت مسألة الزعامات الأبدية و كان المقصود منها هو ” جون لوك ميلونشون ” ، كما إستنجد الاشتراكيون بالرئيس الفرنسي السابق ” فرانسوا هولاند ” في ظل ضعف تأثير عمدة باريس الاشتراكية ” هيدالغوا “… بالإضافة الى صعود نجم ” حركة الساحات العمومية ” رافييل غلوكسمان “…
و لم يسلم حزب الجمهوريون اليميني من ردات الزلزال عقب إعلان رئيسه ” سيوتي ” التحالف مع التجمع الوطني اليميني المتطرف…إذ ثار أعضاء المكتب السياسي ضده و جمدوا وضعيته وهو القرار الذي ألغته محكمة باريس في الجمعة الماضي ، و هتف سيوتي ” العمل من أجل فرنسا ”
كما أعلن ” جوردان بارديلا ” الزعيم الجديد لحزب لوبان عن أخد مسافة من حزب ” ايريك زمور ” لأنه متطرف جدا و خطير جدأ..
لقد تحدثت بعض المنابر الإعلامية بألمانيا Bild عن “استراتيجية الفوضى ” التي كان يحضرها ماكرون منذ شهر ماي الماضي و هو ما ينفي كل صفات التسرع و المغامرة عن قرار ماكرون عقب إعلان نتائج التاسع من يونيو…إذ نجد من بين أهداف تلك الاستراتيجية هي خسارة التجمع الوطني لرئاسيات 2027… لكن على نار هادئة…لكن كيف ذلك…؟
فحزب التجمع الوطني يتوفر على مقاعد مهمة بالجمعية العمومية الفرنسية بعد تشريعيات 2022..مكنته من تقديم الطعون و العرائض و ” عرقلة ” العمل التشريعي…هذا بالإضافة الى تحالف اليسار المعارض..لذلك لوحظ توظيف الفصل 49.3 من الدستور من طرف حكومة ماكرون لحل أغلب المحطات التشريعية و السياسية و في مقدمتها تعديل قانون التقاعد…
لقد ظل حزب لوبان يلعب دور المعارض ” بشكل كلاسيكي ” في ظل ملفات اجتماعية سياسية و اقتصادية و أمنية عاشها ماكرون منذ العهدة الأولى سنة 2017…
لكن لو فاز حزب لوبان بتشريعيات 2024 كما تشير ذلك مختلف استقراءات الرأي ، فهذا يعني اولآ مشاركة الحزب في صناعة السياسات العمومية على المستوى الوطني من موقع الفاعل الحكومي برئاسة الشاب ” جوردان بارديلا” ..و يخرج بذلك من دائرة المعارضة ” زون كونفور” ..و يعني ثانيا، الاشتباك السياسي اليومي مع الرئيس ماكرون الذي يستمد بدوره شرعيته مباشرة من الشعب….مع إطلاق حريته في صياغة السياسة الخارجية و موقعه في المجلس الاوروبي و مجموعاته السياسية…
وهو ما يعني إنهاك الخصم السياسي و اشراكه بحل معظلات اجتماعية و مطالب السترات الصفراء و ملف قوانين الهجرة و المساجد و اللجوء و الضواحي و الإجهاض و الحريات الجنسية و الأمن…وغيرها من الملفات التي تشكل الخبز اليومي للفاعل السياسي و الإعلامي اليميني المتطرف…مع امساك الرئيس ماكرون بحقه في حل البرلمان و إعلان تشريعيات جديدة…
و بما ان المناسبة شرط…فإن دعوة ماكرون الشعب للاختيار الديمقراطي و وقف مد اليمين المتطرف…كان فيها الكثير من الدهاء و حتى لا نقول المكر…إذ بطريقة أو أخرى فإنه حاول جعل الصراع السياسي ثنائيا بينه و بين حزب لوبان و بارديلا…وهو بذلك يقصي باقي الأطياف السياسية و في مقدمتها اليسار و الخضر…و كأنه يعيد جولات رئاسيات 2017 و 2022…
و اذا كانت ” استراتيجية الفوضى ” قد حملت معها منذ البداية مفاجآت سياسية قوية كتحالف حزب الجمهوريون و اليمين المتطرف ، و العودة السياسية لفرانسوا هولاند ، و زعزعة هرمية حزب ميلونشون و تهميش ” ايريك زمور “…
فإن اننا ننتظر التوظيف السياسي الجيد لصوت ” الناخب المسلم ” و الناخبين من أصول مهاجرة…إذ لم يعد مقبولا أو مسموحا هذا العزوف الانتخابي أمام ” جرافة سياسية” لليمين المتطرف تجعل من ملفات الهجرة و اللجوء و الإسلام و المساجد…حصان طروادة…!
أعتقد أن الفرصة سانحة في ظل تداعيات ” استراتيجية الفوضى ” ان تقول الجاليات المسلمة و الناخب المسلم …كلمتها بقوة و تصوت لصالح التيارات الداعمة للتنوع الثقافي والديني و احترام الآخر…و للعيش المشترك…