آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش “مرحلة غير مسبوقة”، أدت إلى “زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها”، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق
المفكر الكندي آلان دونو (موقع الكاتب)
تبدو في هذه الآونة قراءة كتاب “نظام التفاهة”، بعنوانه الغريب والمستفز لمؤلفه آلان دونو، محفوفة بمخاطر فخاخ طرح أسئلة مهمة وملحة تحضر مع كل فصل، في وقت تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظة مفصلية على مستوى طرح سؤال جوهري عن مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم “اللغة الخشبية”، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه “يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة”.
تطور تدريجي
ويرى المؤلف أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول: “ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد”.
ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة القلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، “إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها”، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات جهاز اليوم الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: “إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل”، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية.